العربية القديمة: يثير إشكالات عديدة ومتداخلة فيما بينها يفضي بعضها إلى البعض، ويتوالد بعضها من بعض، وذلك من خلال استعمال حرفي الجر من إلى، فمن تدل على ابتداء الغاية وإلى تفيد انتهاء هذه الغاية، ومعنى ذلك أن البحث مرتبط بابتداء وانتهاء حسب الصيغة الدلالية الحرفي الجر (من، إلى)، فمن شعرية المعيار التي تبلورت كبدايات أولى تؤسس للشعرية العربية عبر مسار تحولاتها الكبرى، إلى مرحلة انتقالها من الثابت إلى المتحول، لذلك كان الشعر في تحول دائم بينما ظلت المقولات النقدية رهينة المعيار، وهنا نجد مفارقة بين حركة الإبداع التي تنطلق كمد جارف لا يوقفه حد وبين حركة النقد التي سعت إلى تقييد هذه الحركة الجارفة بمقولات تم استقراؤها من مرحلة محددة من حياة الحركة الشعرية العربية، فكان قيس الماضي على الحاضر، والسابق على اللاحق، فكانت غاية هذا البحث تتبع هذه التحولات التي اعترت الشعر إبداعاً، والنقد إجراء ومتابعة وتقويما.
ولم تكن غاية هذا التتبع الرصد التاريخي لمفاصل هذه التحولات، فهذا المطلب تم إشباعه بحثا وتفصيلا، وإنما الغاية التي أرجوها أن يكون مسار البحث يترصد التحولات الكبرى التي جرت على المفاهيم والمصطلحات، وهذا التحول شكل بنية الحياة نفسها، فانعكس ذلك التحول سواء على وعي أو لا وعي المبدع، وتجلى ذلك على بنية القصيدة العربية على مستويات كثيرة، منها اللغة والرؤية والصورة، ويسعى البحث إلى ذلك متوسلا المقاربة التفكيكية التي تستند إلى آلية الحفر والنبش ومساءلة مفردات العنوان ذلك أن الهم الذي لأجله يقوم هذا المشروع، هو الحفر والنبش في الأنساق المعرفية والأجهزة المفاهيمية التي تقف وراء تشكل المفاهيم والمصطلحات، والإجراء التفكيكي يتلاءم وآلية الحفر التي جعلها العنوان مفردة حاضرة في المستوى الفرعي منه.
على أن مفهوم مصطلح (قراءة) هنا الموجود في العنوان الفرعي، كان القصد منه الكشف عن التعالق الخفي بين منطوق المصطلحات، وما تسكت عنه من مواربة المفاهيم المخبوءة، باعتبار ذلك فعلا من أفعال التلقي التي لا تلغي إمكانيات الباحث، وتمنحه مساحة وهامشا من الحرية المحدودة بالمنهج، فالقراءة نشاط فاعل يصوغ النص صياغة جديدة للكشف عن مسارات معرفية متقدمة، لذلك فالغاية من قراءة مفردات العنوان بإعادة تفكيكه، وإعادة ربط علاقاته، والوصول إلى المجهول انطلاقا من المعلوم، واستحضار الغياب من خلال الحضور، وبذلك تصبح القراءة تشييدا وإسهاما فاعلا في إنتاج معان أخرى تضاف إلى ما يقدمه النص بوصفه قراءة أولى لعالم النص المتاح، وفي ضوء هذا سوف نقوم بقراءة مفردات العنوان، كل مصطلح على حدة لعلنا نصل إلى المسكوت عنه، ولنبدأ بـ؛
1- الحفريات؟
يرتبط مصطلح الحفريات في معناه العام المتعارف عليه بمجال العلوم التي تختص بجيولوجيا الأرض، وتتمثل في التنقيب المستمر عن الأثريات التي قد مر عليها زمن طويل، باستخدام آليات ووسائل خاصة، وعلى أيدي مختصين في هذا المجال.
وإن نحن أردنا البحث عن معناها اللغوي نجدها تنحدر من الجذر الثلاثي (ح، ف، ر) وتتفق أغلب المعاجم العربية على أن الحفر هو إحداث تجويف في الأرض وحفر الحفيرة الحفرة في الأرض، والحفر اسم المكان الذي حفر كخندق أو بئر، والحافرة العودة في الشيء حتى يراد آخره على أوله، وفي الحديث: إن ما هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته، أي على أول تأسيسه.
وقوله تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ)، أي الخلق الأول بعدما نموت ونعود كما كناء.
أما في التعريف الاصطلاحي فالحفريات أو علم الحفريات مصطلح وضع للإشارة إلى الحقل الجيولوجي، الذي يهتم بالبحث في باطن الأرض واستخراج ما بداخلها من معادن وأحجار، وخامات الفلزات، إلى جانب البقايا العضوية والأجسام الحيوانية التي تحجرت بفعل الزمن، وبفعل بعض التغيرات التي طرأت في باطن الأرض، وساعدتها التربة، لتنتج عنها أشكال مستحثات تكلست أو تحجرت بفعل تقادم السنين، مما شجع العلماء والباحثين في هذا المجال على البحث والتنقيب ثم تقدير عمرها وتحديد الحقبة الزمنية التي تعود إليها.
ومصطلح الحفر من المصطلحات الوافدة والدخيلة على حقل النقد عموماً، والعربي خصوصاً، وهو من المصطلحات التي هاجرت من حقل إلى آخر، ذلك أنه لم تعد هناك حدود فاصلة بين تخوم المعرفة، ليس فقط بين العلوم الإنسانية، بل حتى بين العلوم الإنسانية والعلوم الأخرى التي استعانت بها العلوم الإنسانية المقاربة ظاهرة أدبية ما، محاولة إصباغ السمة العلمية والصرامة المنهجية عليها، وهي محاولة لها من الوجاهة العلمية والمعرفية وما يشفع لهذه الهجرة والتداول.
وهو من المصطلحات التي هاجرت من حقل إلى آخر، وكان وضعها يبدو غريبا عن الأدب والنقد من حيث هو مرتبط أصلا بالأركيولوجيا من جهة، والجيولوجيا من جهة أخرى، ومصطلح (الحفر) لا اعتراض علي دلالته في حقله الأصلي، لكن قد يبدو مقحما في غيره كحضوره في النقد الأدبي، إلا أنه بعد التريث قد يبدو حضوره مقبولا إلى الحد الذي يجعل منه ضروريا، حتى إنه صار هذا الحضور لا يثير أدنى إشكال أو حفيظة لدى القارئ العربي فيما بعد، ولا أدل على ذلك من حضوره المكثف في حقل الدراسات المعاصرة حتى صار مألوفا لا يثير قلق المتلقي العربي، منها على سبيل المثال: كتاب حفريات المعرفة لميشال فوكو، وهو أول كتاب في هذا المجال، وقد فسر لجوءه إلى حقل الحفريات كون التاريخ في ثوبه التقليدي، يسعى إلى أن يجعل من نصب الماضي وأثرياته ذاكرة، ويحولها إلى وثائق ويحث تلك الآثار على التكلم، تلك الآثار التي غالبا ما تكون خرساء، في حد ذاتها، أو أنها تقول صمتا غير ما تقوله جهراً، أما اليوم فإن التاريخ هو ما يحول الوثائق إلى نصب أثرية، ويعرض كمية من العناصر التي ينبغي عزلها والجمع بينها وإبرازها والربط بينها وحصرها في مجموعات، حيث كان التاريخ التقليدي يكتفي بالتنقيب عن الآثار التي خلفها البشر وفحصها والتعرف على ما كانت عليه، لقد مضى زمن كانت فيه الحفريات كفرع معرفي يدرس النصب الأثرية الخرساء والآثار الميتة، والموضوعات غير ذات السياق، والأشياء التي خلفها الماضي، تتمسح بالتاريخ ولا تتخذ معناها إلا بفضل تقويم خطاب تاريخي، وربما كان في استطاعتنا اللعب بالألفاظ والقول إن التاريخ اليوم هو الذي صار يتمسح بالحفريات وينزع نحو الوصف الباطني للنصب الأثرية.
كما يؤرخ الكتاب لتاريخ الأفكار، وكيف تهاجر الأفكار من حقل إلا آخر، وعلاقة الهامشي بالمركزي، أيضاً كتاب محمد عابد الجابري حفريات في الذاكرة من بعيد، حيث هو الآخر يؤرخ للأفكار والوقائع التي تحولت بفعل التراكم الزمني كما يقول إنها أشبه ما تكون بقطع أثرية، وعلى الباحث الأركيولوجي المنقب عن الآثار كمعالم وشهادات ذات معنى، من خلال الحفر في طبقات الذاكرة والتاريخ، ولاشك أن حاجتنا ماسة للاستعانة بحقل الحفريات في تحقيق ذلك لأن التاريخ في ثوبه الجديد، يصادف عدداً من القضايا المنهجية التي لاشك أن أغلبها طرح من قبل لكن ميزتها حاليا هو أنها تطرح مجتمعة من بينها:
1- تكوين مجموعات منسقة ومنسجمة من الوثائق وتوضيح مبدأ الاختيار بينها حسبما إذا كنا نرغب في الاستيعاب الكلي للمادة الوثائقية، أو كنا نكتفي بعينات نختبرها لنستخلص منها نماذج حسب التقنيات الإحصائية.
2- تحديد مستوى التحليل والعناصر التي تتخذ أهميتها من منظوره، وتعيين منهج التحليل المعالجة الكمية للمعطيات وتقسيمها حسب عدد من السمات التي تدرس الاقتران بينها، القراءة التفسيرية للرموز، تحليل أنواع الترداد والتوزع.
3- تحديد المجموعات الكبرى والصغرى التي تقسم المادة المدروسة الجهات الحقب التطورات المركزية.
4- تحديد العلاقات التي تسمح بتعيين مجموعة ما يمكن أن يتعلق الأمر بعلاقات عددية أو منطقية أو بعلاقات وظيفية أو عملية أو تماثلية، كما يمكن أن يتعلق بعلاقة الدال بالمدلول.
هذا بالنسبة للقضايا الجديدة التي أخذت منحى ومنهجا آخر أكثر شمولا وأكثر دقة والذي بإمكانه الوصول إلى نتائج لم تصل إليها طرائق ومناهج الدراسات الأولى للتاريخ وقد كان حريا العناية بهذه القضايا بحسب ميشال فوكو لأنها أصبحت تشكل اليوم جزءا من الحقل المنهجي للتاريخ، وهو حقل يستحق الاهتمام لسببين؛
السبب الأولى : أننا ندرك إلى أي حد تحررنا مما كان إلى عهد قريب يشكل فلسفة التاريخ، وتخلصنا من الأسئلة التي كانت تطرحها حول المعقولية والغائية اللتين تطبعان صيرورة التاريخ، ونسبية المعرفة التاريخية.
السبب الثاني : فيتمثل في أنه حقل يلتقي في بعض نقطه بالقضايا التي نصادفها في غير ميدان التاريخ، سواء في ميدان اللسانيات مثلاً أو الانثولوجيا أو الاقتصاد أو التحليل الأدبي، فهذه القضايا ليست الوحيدة التي يطرحها الحقل المنهجي للتاريخ، إنها لا تشكل إلا جزءا منه تختلف أهميته بحسب الميادين ومستويات التحليل، ثم إنها كقضايا، باستثناء عدد قليل من الحالات المحدودة، لم تستجلب من اللسانيات أو الأنثولوجيا حسب ما هو جار به العمل اليوم بل نشأت في داخل حقل التاريخ نفسه.
وهناك دراسات أخرى أيضاً توالت على هذا النحو تتبنى التفكيك منهجا، والحفر آلية، منها کتاب حفريات نقدية دراسات في نقد النقد العربي لسامى سليمان وحفريات في الخطاب الخلدوني الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية الناجية الوريمي بوعجيلة، وكتاب التخييل والشعر حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية ليوسف الإدريسي، وكتاب حركة التصحيح الفقهي حفريات تأويلية في تجربة ابن تيمية مع الطلاق لياسر بن ماطر المطرفي، وهي مقاربات في حقول معرفية مختلفة، وكتاب حفريات الاستشراق في نقد العقل الاستشرافي لسالم يفوت، وغيرها من الكتب التي جعلت من مصطلح حفريات آلية تقارب به ظواهر اجتماعية وفلسفية، وسير ذاتية، ونقدية، مما أهل المصطلح لأن يكون مقبولا في هذه الحقول المعرفية المختلفة.
على أن مصطلح الحفر في أصل دلالته الاصطلاحية يعني الحفر في طبقات الارض، التي تتشكل أصلا من طبقات، أي اختراق الطبقات المشكلة لها ومعرفة مكوناتها وما ترسب فيها في تلك الحقبة من الزمن، وكل طبقة تحمل ترسبات معينة تختلف عن التي فوقها أو التي تحتها. لكن مصطلح الحفر في دلالته التداولية في الحقل النقدي يعني الحفر والتنقيب بعد التفكيك في طبقات الوعي أو اللاوعي عن مشكلات وموجهات الخطاب، أي البحث عن المسكوت عنه في منطوق الخطاب، ومصطلح الحفر هو وليد تربة غريبة عن الثقافة العربية، فهو يبقى وفيا للأصول الفكرية والفلسفية التي نشأ في كنفها، حتى ولو غادر أرض النشأة/ الميلاد.
وعليه صار هذا المصطلح حاضرا في الدراسات الفلسفية والاجتماعية، ثم انتقل إلى الدراسات النقدية، وغايته فحص الخطابات النقدية أو الاصطلاحية أو المفهومية التي تشكل هذا الخطاب أو ذاك حيث يتوسل به كآلية تتجاوز كل ما هو سطحي وتغوص فيما أطلق عليه رواد ما بعد الحداثة المسكوت عنه المضمر، بهدف المراجعة في المبادئ والأساسيات، أو في الأصول أو في الفرضيات، التي يتم البحث فيها عن تفسير ما.
ومصطلح الحفر هنا، كان القصد من توظيفه آلية لتوصيف هذه الظاهرة، ولم يكن القصد منه هذا الاستعراض لبنية التعريفات التي تقصت مفهومات الشعر بحثا وتنقيبا، واستقصاء هوية الشعر، إنما القصد من ذلك الحفر البحث عن التطور، ووعي النقد الذي حصل أثناء رحلة تحولات الشعر العربي في البنية والمفهوم.
والجدير بالذكر أن هذا المصطلح كان مقتصرا على حقله الأصلي الذي نشأ فيه، ذلك أن كلمة حفريات تستخدم للإشارة إلى أي شيء يجري حفر باطن الأرض لاستخراجه منها، بما فيها المعادن والأحجار الكريمة أو خامات الفلزات، علاوة على البقايا العضوية المتحجرة التي صرنا الآن نقصر استخدام المصطلح عليها وحدها ثم تطور المصطلح وتعدى ذلك مهاجرا إلى حقول معرفية أخرى، وحقق الاشتغال بهذا العلم فتوحات في مجال العلوم الإنسانية غير أن الحفريات اكتسبت أهمية مميزة عندما وصلت جميع التداعيات الفلسفية العلمية المتقاطعة بمجرد فكرة وجود الحفريات على كوكب الأرض إلى نقطة حرجة بل إن في استطاعتنا أن نحدد بدقة متناهية اسم المؤلف وتاريخ الحدث: إنه العالم الانجليزي روبرت هوك الذي وضع مؤلفه في عام 1665م، قبلها كان من الممكن التعامل مع الحفريات باعتبارها أشياء غريبة مثيرة للفضول، ومنذ ذلك الحين صارت الحفريات بدرجات متفاوتة أساسا بثورة علمية وتهديد الأصول ثابتة في علم اللاهوت وملفوظ الحفريات هو مصطلح له علاقة بكل ما هو سابق في القدم، حيث يتحدد موضوعه في علم الآثار.