0 تصويتات
في تصنيف تعليم بواسطة (1.1مليون نقاط)
العربية القديمة: يثير إشكالات عديدة ومتداخلة فيما بينها يفضي بعضها إلى البعض، ويتوالد بعضها من بعض، وذلك من خلال استعمال حرفي الجر من إلى، فمن تدل على ابتداء الغاية وإلى تفيد انتهاء هذه الغاية، ومعنى ذلك أن البحث مرتبط بابتداء وانتهاء حسب الصيغة الدلالية الحرفي الجر (من، إلى)، فمن شعرية المعيار التي تبلورت كبدايات أولى تؤسس للشعرية العربية عبر مسار تحولاتها الكبرى، إلى مرحلة انتقالها من الثابت إلى المتحول، لذلك كان الشعر في تحول دائم بينما ظلت المقولات النقدية رهينة المعيار، وهنا نجد مفارقة بين حركة الإبداع التي تنطلق كمد جارف لا يوقفه حد وبين حركة النقد التي سعت إلى تقييد هذه الحركة الجارفة بمقولات تم استقراؤها من مرحلة محددة من حياة الحركة الشعرية العربية، فكان قيس الماضي على الحاضر، والسابق على اللاحق، فكانت غاية هذا البحث تتبع هذه التحولات التي اعترت الشعر إبداعاً، والنقد إجراء ومتابعة وتقويما.

ولم تكن غاية هذا التتبع الرصد التاريخي لمفاصل هذه التحولات، فهذا المطلب تم إشباعه بحثا وتفصيلا، وإنما الغاية التي أرجوها أن يكون مسار البحث يترصد التحولات الكبرى التي جرت على المفاهيم والمصطلحات، وهذا التحول شكل بنية الحياة نفسها، فانعكس ذلك التحول سواء على وعي أو لا وعي المبدع، وتجلى ذلك على بنية القصيدة العربية على مستويات كثيرة، منها اللغة والرؤية والصورة، ويسعى البحث إلى ذلك متوسلا المقاربة التفكيكية التي تستند إلى آلية الحفر والنبش ومساءلة مفردات العنوان ذلك أن الهم الذي لأجله يقوم هذا المشروع، هو الحفر والنبش في الأنساق المعرفية والأجهزة المفاهيمية التي تقف وراء تشكل المفاهيم والمصطلحات، والإجراء التفكيكي يتلاءم وآلية الحفر التي جعلها العنوان مفردة حاضرة في المستوى الفرعي منه.

على أن مفهوم مصطلح (قراءة) هنا الموجود في العنوان الفرعي، كان القصد منه الكشف عن التعالق الخفي بين منطوق المصطلحات، وما تسكت عنه من مواربة المفاهيم المخبوءة، باعتبار ذلك فعلا من أفعال التلقي التي لا تلغي إمكانيات الباحث، وتمنحه مساحة وهامشا من الحرية المحدودة بالمنهج، فالقراءة نشاط فاعل يصوغ النص صياغة جديدة للكشف عن مسارات معرفية متقدمة، لذلك فالغاية من قراءة مفردات العنوان بإعادة تفكيكه، وإعادة ربط علاقاته، والوصول إلى المجهول انطلاقا من المعلوم، واستحضار الغياب من خلال الحضور، وبذلك تصبح القراءة تشييدا وإسهاما فاعلا في إنتاج معان أخرى تضاف إلى ما يقدمه النص بوصفه قراءة أولى لعالم النص المتاح، وفي ضوء هذا سوف نقوم بقراءة مفردات العنوان، كل مصطلح على حدة لعلنا نصل إلى المسكوت عنه، ولنبدأ بـ؛

1- الحفريات؟

يرتبط مصطلح الحفريات في معناه العام المتعارف عليه بمجال العلوم التي تختص بجيولوجيا الأرض، وتتمثل في التنقيب المستمر عن الأثريات التي قد مر عليها زمن طويل، باستخدام آليات ووسائل خاصة، وعلى أيدي مختصين في هذا المجال.

وإن نحن أردنا البحث عن معناها اللغوي نجدها تنحدر من الجذر الثلاثي (ح، ف، ر) وتتفق أغلب المعاجم العربية على أن الحفر هو إحداث تجويف في الأرض وحفر الحفيرة الحفرة في الأرض، والحفر اسم المكان الذي حفر كخندق أو بئر، والحافرة العودة في الشيء حتى يراد آخره على أوله، وفي الحديث: إن ما هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته، أي على أول تأسيسه.

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ)، أي الخلق الأول بعدما نموت ونعود كما كناء.

أما في التعريف الاصطلاحي فالحفريات أو علم الحفريات مصطلح وضع للإشارة إلى الحقل الجيولوجي، الذي يهتم بالبحث في باطن الأرض واستخراج ما بداخلها من معادن وأحجار، وخامات الفلزات، إلى جانب البقايا العضوية والأجسام الحيوانية التي تحجرت بفعل الزمن، وبفعل بعض التغيرات التي طرأت في باطن الأرض، وساعدتها التربة، لتنتج عنها أشكال مستحثات تكلست أو تحجرت بفعل تقادم السنين، مما شجع العلماء والباحثين في هذا المجال على البحث والتنقيب ثم تقدير عمرها وتحديد الحقبة الزمنية التي تعود إليها.

ومصطلح الحفر من المصطلحات الوافدة والدخيلة على حقل النقد عموماً، والعربي خصوصاً، وهو من المصطلحات التي هاجرت من حقل إلى آخر، ذلك أنه لم تعد هناك حدود فاصلة بين تخوم المعرفة، ليس فقط بين العلوم الإنسانية، بل حتى بين العلوم الإنسانية والعلوم الأخرى التي استعانت بها العلوم الإنسانية المقاربة ظاهرة أدبية ما، محاولة إصباغ السمة العلمية والصرامة المنهجية عليها، وهي محاولة لها من الوجاهة العلمية والمعرفية وما يشفع لهذه الهجرة والتداول.

وهو من المصطلحات التي هاجرت من حقل إلى آخر، وكان وضعها يبدو غريبا عن الأدب والنقد من حيث هو مرتبط أصلا بالأركيولوجيا من جهة، والجيولوجيا من جهة أخرى، ومصطلح (الحفر) لا اعتراض علي دلالته في حقله الأصلي، لكن قد يبدو مقحما في غيره كحضوره في النقد الأدبي، إلا أنه بعد التريث قد يبدو حضوره مقبولا إلى الحد الذي يجعل منه ضروريا، حتى إنه صار هذا الحضور لا يثير أدنى إشكال أو حفيظة لدى القارئ العربي فيما بعد، ولا أدل على ذلك من حضوره المكثف في حقل الدراسات المعاصرة حتى صار مألوفا لا يثير قلق المتلقي العربي، منها على سبيل المثال: كتاب حفريات المعرفة لميشال فوكو، وهو أول كتاب في هذا المجال، وقد فسر لجوءه إلى حقل الحفريات كون التاريخ في ثوبه التقليدي، يسعى إلى أن يجعل من نصب الماضي وأثرياته ذاكرة، ويحولها إلى وثائق ويحث تلك الآثار على التكلم، تلك الآثار التي غالبا ما تكون خرساء، في حد ذاتها، أو أنها تقول صمتا غير ما تقوله جهراً، أما اليوم فإن التاريخ هو ما يحول الوثائق إلى نصب أثرية، ويعرض كمية من العناصر التي ينبغي عزلها والجمع بينها وإبرازها والربط بينها وحصرها في مجموعات، حيث كان التاريخ التقليدي يكتفي بالتنقيب عن الآثار التي خلفها البشر وفحصها والتعرف على ما كانت عليه، لقد مضى زمن كانت فيه الحفريات كفرع معرفي يدرس النصب الأثرية الخرساء والآثار الميتة، والموضوعات غير ذات السياق، والأشياء التي خلفها الماضي، تتمسح بالتاريخ ولا تتخذ معناها إلا بفضل تقويم خطاب تاريخي، وربما كان في استطاعتنا اللعب بالألفاظ والقول إن التاريخ اليوم هو الذي صار يتمسح بالحفريات وينزع نحو الوصف الباطني للنصب الأثرية.

كما يؤرخ الكتاب لتاريخ الأفكار، وكيف تهاجر الأفكار من حقل إلا آخر، وعلاقة الهامشي بالمركزي، أيضاً كتاب محمد عابد الجابري حفريات في الذاكرة من بعيد، حيث هو الآخر يؤرخ للأفكار والوقائع التي تحولت بفعل التراكم الزمني كما يقول إنها أشبه ما تكون بقطع أثرية، وعلى الباحث الأركيولوجي المنقب عن الآثار كمعالم وشهادات ذات معنى، من خلال الحفر في طبقات الذاكرة والتاريخ، ولاشك أن حاجتنا ماسة للاستعانة بحقل الحفريات في تحقيق ذلك لأن التاريخ في ثوبه الجديد، يصادف عدداً من القضايا المنهجية التي لاشك أن أغلبها طرح من قبل لكن ميزتها حاليا هو أنها تطرح مجتمعة من بينها:

1- تكوين مجموعات منسقة ومنسجمة من الوثائق وتوضيح مبدأ الاختيار بينها حسبما إذا كنا نرغب في الاستيعاب الكلي للمادة الوثائقية، أو كنا نكتفي بعينات نختبرها لنستخلص منها نماذج حسب التقنيات الإحصائية.

2- تحديد مستوى التحليل والعناصر التي تتخذ أهميتها من منظوره، وتعيين منهج التحليل المعالجة الكمية للمعطيات وتقسيمها حسب عدد من السمات التي تدرس الاقتران بينها، القراءة التفسيرية للرموز، تحليل أنواع الترداد والتوزع.

3- تحديد المجموعات الكبرى والصغرى التي تقسم المادة المدروسة الجهات الحقب التطورات المركزية.

4- تحديد العلاقات التي تسمح بتعيين مجموعة ما يمكن أن يتعلق الأمر بعلاقات عددية أو منطقية أو بعلاقات وظيفية أو عملية أو تماثلية، كما يمكن أن يتعلق بعلاقة الدال بالمدلول.

هذا بالنسبة للقضايا الجديدة التي أخذت منحى ومنهجا آخر أكثر شمولا وأكثر دقة والذي بإمكانه الوصول إلى نتائج لم تصل إليها طرائق ومناهج الدراسات الأولى للتاريخ وقد كان حريا العناية بهذه القضايا بحسب ميشال فوكو لأنها أصبحت تشكل اليوم جزءا من الحقل المنهجي للتاريخ، وهو حقل يستحق الاهتمام لسببين؛

السبب الأولى : أننا ندرك إلى أي حد تحررنا مما كان إلى عهد قريب يشكل فلسفة التاريخ، وتخلصنا من الأسئلة التي كانت تطرحها حول المعقولية والغائية اللتين تطبعان صيرورة التاريخ، ونسبية المعرفة التاريخية.

السبب الثاني : فيتمثل في أنه حقل يلتقي في بعض نقطه بالقضايا التي نصادفها في غير ميدان التاريخ، سواء في ميدان اللسانيات مثلاً أو الانثولوجيا أو الاقتصاد أو التحليل الأدبي، فهذه القضايا ليست الوحيدة التي يطرحها الحقل المنهجي للتاريخ، إنها لا تشكل إلا جزءا منه تختلف أهميته بحسب الميادين ومستويات التحليل، ثم إنها كقضايا، باستثناء عدد قليل من الحالات المحدودة، لم تستجلب من اللسانيات أو الأنثولوجيا حسب ما هو جار به العمل اليوم بل نشأت في داخل حقل التاريخ نفسه.

وهناك دراسات أخرى أيضاً توالت على هذا النحو تتبنى التفكيك منهجا، والحفر آلية، منها کتاب حفريات نقدية دراسات في نقد النقد العربي لسامى سليمان وحفريات في الخطاب الخلدوني الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية الناجية الوريمي بوعجيلة، وكتاب التخييل والشعر حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية ليوسف الإدريسي، وكتاب حركة التصحيح الفقهي حفريات تأويلية في تجربة ابن تيمية مع الطلاق لياسر بن ماطر المطرفي، وهي مقاربات في حقول معرفية مختلفة، وكتاب حفريات الاستشراق في نقد العقل الاستشرافي لسالم يفوت، وغيرها من الكتب التي جعلت من مصطلح حفريات آلية تقارب به ظواهر اجتماعية وفلسفية، وسير ذاتية، ونقدية، مما أهل المصطلح لأن يكون مقبولا في هذه الحقول المعرفية المختلفة.

على أن مصطلح الحفر في أصل دلالته الاصطلاحية يعني الحفر في طبقات الارض، التي تتشكل أصلا من طبقات، أي اختراق الطبقات المشكلة لها ومعرفة مكوناتها وما ترسب فيها في تلك الحقبة من الزمن، وكل طبقة تحمل ترسبات معينة تختلف عن التي فوقها أو التي تحتها. لكن مصطلح الحفر في دلالته التداولية في الحقل النقدي يعني الحفر والتنقيب بعد التفكيك في طبقات الوعي أو اللاوعي عن مشكلات وموجهات الخطاب، أي البحث عن المسكوت عنه في منطوق الخطاب، ومصطلح الحفر هو وليد تربة غريبة عن الثقافة العربية، فهو يبقى وفيا للأصول الفكرية والفلسفية التي نشأ في كنفها، حتى ولو غادر أرض النشأة/ الميلاد.

وعليه صار هذا المصطلح حاضرا في الدراسات الفلسفية والاجتماعية، ثم انتقل إلى الدراسات النقدية، وغايته فحص الخطابات النقدية أو الاصطلاحية أو المفهومية التي تشكل هذا الخطاب أو ذاك حيث يتوسل به كآلية تتجاوز كل ما هو سطحي وتغوص فيما أطلق عليه رواد ما بعد الحداثة المسكوت عنه المضمر، بهدف المراجعة في المبادئ والأساسيات، أو في الأصول أو في الفرضيات، التي يتم البحث فيها عن تفسير ما.

ومصطلح الحفر هنا، كان القصد من توظيفه آلية لتوصيف هذه الظاهرة، ولم يكن القصد منه هذا الاستعراض لبنية التعريفات التي تقصت مفهومات الشعر بحثا وتنقيبا، واستقصاء هوية الشعر، إنما القصد من ذلك الحفر البحث عن التطور، ووعي النقد الذي حصل أثناء رحلة تحولات الشعر العربي في البنية والمفهوم.

والجدير بالذكر أن هذا المصطلح كان مقتصرا على حقله الأصلي الذي نشأ فيه، ذلك أن كلمة حفريات تستخدم للإشارة إلى أي شيء يجري حفر باطن الأرض لاستخراجه منها، بما فيها المعادن والأحجار الكريمة أو خامات الفلزات، علاوة على البقايا العضوية المتحجرة التي صرنا الآن نقصر استخدام المصطلح عليها وحدها ثم تطور المصطلح وتعدى ذلك مهاجرا إلى حقول معرفية أخرى، وحقق الاشتغال بهذا العلم فتوحات في مجال العلوم الإنسانية غير أن الحفريات اكتسبت أهمية مميزة عندما وصلت جميع التداعيات الفلسفية العلمية المتقاطعة بمجرد فكرة وجود الحفريات على كوكب الأرض إلى نقطة حرجة بل إن في استطاعتنا أن نحدد بدقة متناهية اسم المؤلف وتاريخ الحدث: إنه العالم الانجليزي روبرت هوك الذي وضع مؤلفه في عام 1665م، قبلها كان من الممكن التعامل مع الحفريات باعتبارها أشياء غريبة مثيرة للفضول، ومنذ ذلك الحين صارت الحفريات بدرجات متفاوتة أساسا بثورة علمية وتهديد الأصول ثابتة في علم اللاهوت وملفوظ الحفريات هو مصطلح له علاقة بكل ما هو سابق في القدم، حيث يتحدد موضوعه في علم الآثار.

3 إجابة

0 تصويتات
بواسطة (1.1مليون نقاط)
 
أفضل إجابة
أما من الناحية الفلسفية فإن الحفريات يمكنها أن تمنحنا نظرة شاملة عن الحياة نفسها، تعرض الحياة داخل بعد زمني تصبح فيه وجهة النظر التي تقوم على أن الإنسان محور الكون لا معنى لها، وهنا يرتبط مفهوم الحفريات بما له شأن بطبقات الذاكرة، حيث يتداخل ما هو اجتماعي بما هو فلسفي أو حتى وأيديولوجي من خلال الرصد الأبستيمولوجي، والحفر في الحقب المتعاقبة للبحث عن تطور مستحث، أو لمفهوم أو مصطلح ما.

وبذلك يمكننا أن نصنف الحفريات على أنها دراسة علمية تخص حياة ما قبل التاريخ وتقوم على دراسات الحفريات من أجل التحقق من التطور والتفاعل الذي حدث لهياكل الكائنات المختلفة ونوعية البيئات التي عاشت فيها، فهي إذن وسيلة لمعرفة وإثبات عملية التطور العضوية المرتبطة بالكائنات الحية، والتي ترى أن مجموع الأنماط المتوفرة من الأحياء أو التي تم العثور عليها أثناء البحث والتنقيب والحفر ما هي إلا أشكال لكائنات كانت حية وموجودة في العصور الجيولوجية الماضية تشكلت بصفة تدريجية بفعل تدخل عوامل الطبيعة

وسبب تطرقنا لموضوع الحفريات قد اقتضته أسباب منهجية، منها ارتباط العنوان بهذا المصطلح، حيث اتخذه فرعا منه، لذا وجب توضيح اللجوء إلى دلالة الحفر مصطلحا ومفهوما في دراستنا هذه، وكيف انتقل هذا المصطلح من حقله العلمي الجيولوجي إلى الحقل الأدبي، وهو ما قد يضفي على البحث الصبغة العلمي، ولأنه لا سبيل لمعرفة الشعرية في أطوارها وتغيراتها إلا باللجوء العملية الحفر، التي قد تمكننا من تحديد أهم التحولات التي طرأت على مصطلح ومفهوم الشعرية، وقد تمكننا من التعرف على الجينات التي حافظت على ملامحها أو تلك التي جرى عليها فعل التبدل والتغير، كما قد يساعدنا فعل الحفر أيضا على تحديد الأعمار الزمنية لطبقات الشعرية والتعرف عليها وعلى مميزاتها

ويكون معنى الحفر هنا، من خلال ما تمتد هذه الحفريات عبر تاريخ الشعرية العربية أثناء تكونها وتشكلها، من مرحلة الذوق إلى مرحلة النقد الواعي والمنهجي من الأصول إلى التأصيل وهذا الحفر يكون في الذاكرة عبر مراحل طفولتها إلى نضجها حتى شيخوختها، من خلال محطاتها المتعددة والمتنوعة.

وتكون هذه العملية باستخراج النماذج الشعرية القديمة بالبحث عنها في طبقات الوعي وعن الترسبات الناجمة في جميع مراحلها التي قطعتها عبر الزمن، ثم حفظها على ما جاءت عليه دون ممارسة التغيير فيها أو التبديل، وإبقائها على خصوصيتها وتركيبتها التي وجدناها عليها، ليتسنى لنا دراستها في جميع أطوارها وإحصاء التغيرات والتجاوزات التي حدثت فيها، والتي كان لعامل الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية أثر فيها.

وفي نهاية عملية الحفر التي سنقوم بها عن الشعرية العربية القديمة نكون قد تمكنا من تحديد الأنماط المتغيرة للتنوع الإبداعي في الشعر، لنجد أن هناك فترات تحايلت وباغتت الأدب ولاسيما فن قول الشعر، والحفريات بدورها ستكشف لنا ذلك وتوضح لنا كيف اعترى القصيدة الشعرية العربية تحول في لغتها، وصورها، وأسلوبها، وهو مخالف ومغاير يتجاوز القوانين التي قعدها منظرو القصيدة العربية الجاهلية

إن عملية الحفر في طبقات الشعرية العربية لا يقتصر على مجرد البحث في نمطين المعيار والتجاوز بحيث قد نالا حظهما من الدراسة النقدية والبلاغية وعدا على أنهما طفرة نوعية وانعطافه كبيرة في التاريخ الأدبي لهما خصائصهما ومميزاتهما وتجلياتهما، بل إن الأمر يتجاوز ذلك للبحث عن الشعريات الهامش التي قبعت رهينة ترسبات متينة حالت دون ظهورها كنمط شعري جديد، وربما يعود السبب في ذلك إلى الظهور القوي للنمطين السابقين وهيمنتهما على الساحة الشعرية العربية وتنافسهما في فرض وجودهما، واستمراريتهما في الساحة الأدبية، ما غطى وحجب الرؤية عن باقي الشعريات الأخرى، وصرف النقاد عن الخوض فيها، فكان الانشغال بهذين النظامين دون غيرهما، وأحيلت باقي الأنماط الشعرية إلى الهامش، لأنها لم تلق من النقاد والدارسين التفاتة تليق إليها، وهذا يعد إجحافا في حق جانب كبير من الشعرية العربية في شقها المهمش حيث يتوخى الحفر هنا التنقيب عن بعض الطروحات الشعرية في المقولات النقدية، وكيف تبلورت المفاهيم والمصطلحات وكيف جرى عليها التطور التاريخي.

2- الشعرية؟

إن الحديث عن الشعر تحديدا ماهية وتعريفا تضع الدارس أمام كم هائل من تعريفات متشابهة ومتقاربة أحيانا، ومتباينة مختلفة أحيانا أخرى، وهي نتيجة تجربة ذاتية أملاها هذا التطور والوعي بوظيفة الشعر وماهيته، كما أفرزها الفكر الإنساني من خلال تراكم التجارب واختلافها، وما هي إلا محاولات متلاحقة لفهم من طبيعة الشعر، التي لا تقف عند حد أو تعريف، وهي في الآن ذاته محاولة للاقتراب من مفهوم الشعرية، وإن ظل مفهوما غائما مترددا ذلك أن قراءة سريعة لمعظم كتب التراث التي تبحث في النقد وبخاصة الشعر، تقودنا إلى عمل الشعر أو صناعته أو علم وفن الكتابة الشعرية أو كتابة الشعر أو كيفية نظم الكلام عامة وعمل الشعر خاصة أو عمل الشعر وشحذ القريحة. ومعنى ذلك أن هذه المصطلحات التي تم ذكرها في القول سابقا كانت توحي بمعنى الشعرية دلالة لا اصطلاحاً.

فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن نقترب من مفهوم الشعرية إلا بالحديث عن الشعر وخصائصه ومكوناته البنيوية تعريفا أو مفهوما، وإن كان التسليم بدءا أن تعريف الشعر هي مجازفة خطيرة، محفوفة بالمحاذير والصعوبات، ولم يشذ تراثنا النقدي عن ذلك، فقد قدم مشروعا يبتغي من خلاله مقاربة هذه الظاهرة بتعريفات متعددة، وقد تفاوتت بحسب العصور وتعاقبها وبحسب المؤثرات كالمؤثرات الفلسفية التي ألقت بظلالها على النقاد، ويمكن تقديم بعض التعريفات التي كانت تعد محطات من خلالها يظهر مفهوم الشعر فيعرفه ابن طباطبا العلوي (322هـ) فيقول؛ الشعر أسعدك الله كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته محته الأسماع، وفسد على الذوق، ونظمه معلوم محدود، ويعرفه قدامة ابن جعفر (326هـ) فيقول: إن الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى، ويعرفه علي بن عبدالعزيز الجرجاني (392هـ) فيقول؛ إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدرية مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز.

أما أبو هلال العسكري فيعرفه قائلاً 395 هـ إن الشعر كلام منسوج، ولفظ منظوم، وأحسنه ما تلاءم نسجه ولم يسخف وحسن لفظه ولم يهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام، فيكون جلفاً بغيضاً، ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلا دونا.

ويقول ابن رشيق القيرواني (456هـ): الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء وهي اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر، لأن من الكلام موزونا مقفى وليس بشعر لعدم القصد والنية كأشياء اتزنت من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

ويقول حازم القرطاجني (684 هـ) الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد إليها، ويكره ما قصد تكريهه، ويقول ابن خلدون (808هـ) الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به.

ولم تكن الأمة العربية وحدها من كانت مولعة بالظاهرة الشعرية، ذلك بأن الشعر لصيق بالإنسان حيثما كان بصرف النظر عن جنسه ومعتقده أو عرقه، لذلك سوف نستأنس ببعض التعاريف لتوضيح حقيقة سوف نؤكدها بعد ذلك، فيعرف هايدجر الشعر رابطا بينه وبين حقيقة الإنسان فيقول؛ العالم الشعري هو العالم الإنساني، والشعر هو الخطاب الذي يصف حقيقته أما (جاستون باشلار) فيقول عن الشعر؛ الوصف الصادق للظاهرة الكونية، ويضيف أما إدجار آلان بو فيقول عن الشعر: خلق الجمال الموزون، أما شيلي فيقول عن الشعر هو تعبير الخيال عن نفسه.

هذه بعض التعاريف التراثية للشعر، ولسنا هنا في سياق حصر التعريفات وتعدادها أو رصدها كلها، فذلك أمر يصعب تحقيقه، كما أننا لسنا في سياق تتبعها من حيث التسلسل التاريخي وليست هي غاية هذا البحث، وإنما غاية ما في الأمر تأكيد تفاوت هذه التعاريف في تحديد ماهية الشعر، وأن كل واحد منها ينظر لهذا الموضوع من زاوية معينة، وقد يلتقي مع بعضها، أو يتغاير معها، وإن كان الاتفاق على خاصية الوزن دون غيره من الخصائص الأخرى، مما يعطينا انطباعاً جوهرياً، هو أن الوزن صار مكونا بنيويا فارقا، و وجوهريا في تحديد ماهية الشعر، ذلك أن القدماء لم يجدوا في الشعر ما يميزه عن النشر إلا القوافي والأوزان، وهو ما ظل شرطا حاضرا في كل التعاريف.

وحتى لا يتهم التراث النقدي العربي بالمجانية في تحديد الماهية الشعرية، فإننا استعنا ببعض التعاريف الغربية للشعر، وهي لا تختلف كثيرا عن التعاريف التراثية، فقد سقطت هي الأخرى في التعميم، لكي نؤكد على عمومية التعريفات التي طرحت من قبل عن الشعر ذلك أن الشعر لا يمكن تعريفه، بل هو غير قابل للتعريف أصلا، وإن هذه التعريفات المفهومية على تعددها لم تتفق فيما بينها على خصائص الظاهرة الشعرية، بل إن كل تعريف منها كان يتحدد طبقا لرؤيةصاحبه، المحدودة بالشخصية والزمكانية.

والحديث عن الشعر يقودنا للحديث عن الشعرية التي هي بدورها ظلت متفاوتة الدلالة، ولم يتفق الباحثون حولها على مفهوم واحد، ومصطلح الشعرية على كثرة استعماله وتداوله، من أكثر المصطلحات التي تستدعي البحث والتنقيب، ولفظة الشعرية هنا في منحاها الصرفي نسبة إلى الشعر، لا ترقى في المعنى إلى ما أراده من ابتدعوا حديثا لفظة الشعرية، وهي واضحة الدلالة التي لا تخفى على الدارسين، خصوصا أولئك الذين انصرفوا إلى قراءة الشعر أو نظمه أو تذوقه، إنها تشير إلى تلك العلاقة بين الشعر وهذا الحشد من المفردات ذات الدلالة المختلفة، وإن كان المعنى العام لا يخرج عن إطار الشعر كفن يستلزم الكثير من حسن التعامل معه.

ذلك أن قضية المصطلح من القضايا الشائكة التي ألزمت الباحث في مجال المعاني والمفاهيم بشروط ضابطة، فقبل وضع مصطلح ما يجب الاتفاق المحمل عليه بحسب تعريف اللغويين على أنه مطلق الاتفاق، أو إخراج اللفظ من معناه الأصلي اللغوي إلى معنى آخر اصطلح عليه الناس، أو جمهرة منهم لبيان المراد، على أن يكون المصطلح مضبوطاً ومخصصاً لمفهوم علمي واحد دون غيره كي لا تختلط المفاهيم ولا تتداخل فيما بينها.

والواجب الفصل بينها ولو بفروقات بسيطة كافية لمنح كل مصطلح خصوصيته التي تميزه، ثم بعد ذلك يتم التسويق للمصطلح بالتشهير به حتى يلقى قبولا واستساغة، وإلا كان عكس ذلك فالمصطلح يبتكر فيوضع ويبث ثم يقذف به في حلبة الاستعمال فإما أن يروج فيثبت، وإما أن يكسد فيختفي، وقد يدلى بمصطلحين أو أكثر بمنظور واحد فتتسابق المصطلحات الموضوعة وتتنافس في سوق الرواج ثم يحكم التداول للأقوى فيستبقيه ويتوارى الأضعف، ولأن الشعرية مفهوم قديم زمنيا فإنها تحتوي الكثير من المعاني المتعددة والمختلفة من حيث الحضور النقدي، فهي في مفهومها العام قوانين الخطاب الأدبي بداية من أرسطو إلى الوقت الحاضر ونجد النقاد العرب القدامى قد أدركوا معنى الشعرية واستعملوه مضافا لكلمات أخرى، كقولهم الأغراض الشعرية صناعة الشعر عمود الشعر الأقاويل الشعرية، فطرحت عندهم على أنها علم يتناول الشعر وطريقة صناعته وتأليفه، وقد ورد في طبقات فحول الشعراء قول ابن سلام الجمحي للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان.

فكلمة الشعرية إذن هي اختصار لمعان كثيرة في التراث حيث تمكنت من اختصار المعاني المزدحمة في كتب التراث والنقد العربيين، وهي قصرت دون الوصول إلى ما وصلت إليه الشعرية الحديثة، وإن كان المعنى المستفاد من الشعرية، قد تناثر، وملأ الصفحات بمدلولات أخرى كالنظم والصناعة وغير ذلك.

إن دلالة الشعرية في التراث النقدي العربي وردت مفهوما لا مصطلحا، وإن استقراء هذا التراث يؤكد بلا مجال للشك بأن هذه اللفظة جاء مضافة إلى غيرها، ولم ترد منفردة فالمتون كما الحواشي تزخر بمفردة الشعرية الملاصقة دائما للفظة أخرى تشكل معها تركيبا يدل على الحالة أو النوع وهي بمضمونها الظاهر لا تحمل المعنى الذي تشير إليه المفردة المستقلة الحديثة الشعرية ومن هذه التراكيب ما هو بصيغة التذكير كما بصيغة التأنيث على سبيل الوزن الشعري المسلك الشعري الطبيعة الشعرية، اللغة الشعرية الوظيفة الشعرية الصورة الشعرية الجوازات الشعرية الضرورة الشعرية الأدوات الشعرية، الأغراض الشعرية الكتابة الشعرية، فإن غاب المصطلح، حضر المفهوم.

لم تكن مشكلة المصطلح في النقد الغربي مدعاة للحيرة، لأنها نشأت في بيئته الحاضنة، فهو وليد تراكم معرفي و إفراز منطقي لعلاقة اللاحق بالسابق، بالمقابل كان الإشكال في تبنيه، ونقله إلى الثقافة العربية، وذلك راجع إلى نشوء المصطلح في بيئة غربية متطورة هي حوصلة تراكم التجارب والمعارف بينما في البيئة العربية كان نتيجة ترجمة لم تمنح اهتماما وعناية بالسياق الحضاري الذي أنتجه، وذلك راجع إلى درجة اختلاف وتفاوت الوعي عند كل من النقاد واللسانيين، الذين اختلفوا ولم يتفقوا على تسميتها بمصطلح واحدة، مما أثار قلقا واضطرابا، فبعضهم أسماها: الإنشائية، أو الأدبية، أو الشعرية، والبعض الآخر أطلق عليها مصطلح الشاعرية، كذلك ما يتعلق بالترجمات الكثيرة التي تم اقتراحها كمقابل للمصطلح الغربي للشعرية والتي زادت من ارتفاع وتيرة إرباك وزعزعت واختلاط المفاهيم وعلى الرغم من استقرار مصطلح الشعرية في المدونات النقدية؛ فاللفظة الشعرية لا تمتلك مقومات الاصطلاح فهي غير مشبعة بمفهوم معين، كما أنها لم تكرس تماما في النصوص النقدية العربية القديمة فضلاً عن النصوص المترجمة عن أرسطو والنصوص التي شرحت كتابه في الشعرية لهذا لا نعدها مصطلحا ناجزا ولدته الكتابات العربية القديمة.
0 تصويتات
بواسطة (1.1مليون نقاط)
وعلى العموم فإن كتب التراث لم تغب فيها دلالة لفظ الشعرية مفهوما، وإن غابت مصطلحا، ومع ذلك فإن هذا المفهوم ظل موضوعاً غائماً في ثنايا النظرية النقدية عامة، لأن المصطلح لم يرد منفرداً، وإنما ورد مضافا إلى كلمات أخرى وفي سياقات متعددة، لكنه ظل مشدوداً إلى فكرة الصناعة، التي شكلت النظرة المعيارية و التي قولبت الفن الشعري، وأصبحت شعرية المعيار تفرض على الشاعر العربي مجموعة من الأصول تلزمه بها في عملية إبداعه. فما المقصود بشعرية المعيار.

3- شعرية المعيار؟

إذا نحن بحثنا عن كلمة معيار في شكلها العام تجدها في الغالب مقرونة بكل علم له أسس وقواعد، وحتى في المعاجم القديمة نجدها تجتمع على أنها مكيال والمكيال هو آلة للقياس سواء قياس المعادن أو الحبوب أو الخضر أو الصوف أو حتى الحجر، وكذلك قياس أوزان البشر وكل شيء تحدد قيمته به، يقول ابن منظور في معجم لسان العرب والمعيار من المكاييل، ما عير قال الليث العيار ما عايرت به المكاييل، فالعيار صحيح تام واف، نقول عايرت به أي سويته وهو العيار والمعيار، والعيار والمعيار، لا يقال إلا في الكيل والوزن.

وفي معجم الوسيط عير الدنانير بمعنى وزنها واحدا بعد واحد، وهي العبارة نفسها في كل من كتاب العين للخليل، أو كتاب لسان العرب لابن منظور بالاستناد إلى معيار أو كيل يحدد جودتها أو رداءتها ويبين جيدها من زائفها كالنقد، فانتقل هذا المعنى من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الاصطلاحية، وهو ما يكون بالنسبة للعمل الأدبي.

ولعل التعريف اللغوي للمعيار لا يختلف كثيرا عن التعريف الاصطلاحي، حيث تتفق أغلب القواميس والمعاجم اللغوية والفلسفية على أن المعيار هو المكيال في المعجم الفلسفي العيار لفظة إفرنجية مأخوذة من كلمة يونانية ومعناها الزاوية المثلثة أو مسطرة البناء، تفيد نموذج متحقق أو متصور لما ينبغي أن يكون عليه الشيء و لالاند له كتاب يقول فيه إن وظيفة العقل معيارية وليست تقريرية، وهذا يصدق ليس فقط على الأخلاق، ولكن على المنطق والرياضة والعلوم كذلك، فكل حكم تقريري إنما ينطوي في الواقع على مصادر أساسية أن هذا أفضل من ذاك، وهو المجال الذي ينشط فيه معيار التفاضل بين شيئين أو أكثر، مما يدل أن الوعي المعياري بهذا المعنى كان حاضرا في وعي الناقد العربي، والذي تمثل في الموازنات والمفاضلات.

وبالتالي فإن محاولة وضع معيار قياسي تقاس به الأشعار، فمتى ما تحقق المعيار عندئذ يتحقق شرط الشعرية، ومتى ما كان الانحراف عن هذا المعيار كثرة أو قلة، يكون الحكم على هذه القصيدة أو تلك.

ولذلك كان وجود معيارية عملية دقيقة وحساسة، فهي ليست محض صدف، أو اختيارات عشوائية اعتباطية إذ تستوجب تضافر مجموعة من المعايير في حد ذاتها للخروج بمعيار يمكننا من الاستناد إليه في تقويم قصيدة ما، ومن ثم الوقوف على مخرجات علمية منطقية مجردة من كل المؤثرات الأخرى، والتي تحيل دون الوصول إلى نتائج قطعية صائبة، وعليه في إن المعيارية التي ينبذها بعض النقاد المعاصرين هي معيارية متأصلة في طبيعة العمل النقدي يستند إليها في ضبط قوانينه، كما يستند إليها في إصدار أحكامه، فإن لم يكن هذا ولا ذلك، فلا أقل من أن يستند إليها في اختیار نصوصه وإن الازورار عن هذه المعيارية إلى مجرد الوصف، وعن التقويم والتوجيه إلى مجرد التفسير والتحليل، هو خروج بالمصطلح عن داره ومداره.

غير أنه لم ترد في التراث بهذا التوصيف شعرية المعيار، وإن كان مفهوم المعيار حاضرا في ذهن ووعي الناقد، لأنه لم يكن ينطلق من فراغ في تقويم الإبداع الشعري، وإنما كان ينطلق من مجموعة قوانين تخص الشعر تشكل بدورها مجموعة معايير على أساسها وفي ضوئها يتم قبول الشعر أو رفضه وإن ورد اللفظ في كتاب ابن طباطبا عيار الشعر، وقد عقد فصلا عنونه (عيار الشعر) بين هذه المعايير التي اتخذها مقياسا للجمال الشعري وهي؛ اعتدال الوزن وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، فإذا توافر هذه العناصر الثلاثة تم الحكم له بالجودة، وعندئذ سوف يكون هذا الشعر أنفذ، وأخفى من دبيب الرقى، وعند استقراء منهجية الكتاب، والإستراتيجية التي أرادها من عنوان، ويمكن القول إن مصطلح عيار الشعر يرادف الوسائل أو المقاييس التي ينبني عليها الحكم النقدي على هذا الفن، والجذر اللغوي لكلمة العيار يؤكد هذا الفهم.

إن هذه النظرات المقتضبة للتعريفات الاصطلاحية واللغوية وحتى الفلسفية تحيلنا إلى إدراك كلمة المعيار في سياقها الاصطلاحي والمفهومي، فهي تنطبق كما سوف يتقرر لاحقا، على جملة القوانين التي اتخذها النقد العربي القديم معايير للحكم على الشعر سواء بالجودة أو الرداءة، لقد كانت حاجة الناقد العربي القديم في مرحلة التأسيس إلى معيار ما، وبدون معايير ضابطة سوف ينفلت قياس الجودة والرداءة، ولم تكن هذه المعايير إلا من المتن الشعري ذاته، فهي ليست خارجة عن بنيته، ولا هي غريبة عنه.

ومن خلال عملية الحفر في الحقب المتعاقبة التي كان عمود الشعر يتشكل ضمنها، ندرك أن هذا المفهوم لم يكن طفرة ولا طارئة، ولا هو تشكل من خارج النص، وإنما من خلال التراكم والتعاقب ذلك أن فكرة عمود الشعر التي استقرأ قواعدها المرزوقي في شرح الحماسة، لم تكن شيئاً جديداً على النقاد القدماء، لقد كانت حاضرة وموجودة في وعي الناقد القديم، فأكثر هذه القواعد ضمها كتاب الوساطة للجرجاني، الذي يمكن عده صاحب هذه الفكرة على الرغم من أن المصطلح من وضع الآمدي قبله، وقد استخلصت فكرة عمود الشعر من الشعر الجاهلي وأساليبه الفنية، وأصبح عمود الشعر محوراً نقدياً يلخص مذهب الشعراء الجاهليين في الشعر، ومقاييسهم الفنية التي اتخذها أسساً فنية، ومقاييس جمالية ثابتة في صراعهم مع المحدثين.

وظل ارتباط الذائقة الشعرية بالمعيار من خلال ارتباط الذاكرة الجمعية بالنموذج الأول وربما للأسباب السابقة وحدها تظل الذاكرة الجمعية متعاطفة ومرتبطة مع الشعر الكلاسيكي، ومن خلال تلك القصيدة فإن الشاعر كما يقول ابن رشد يرتبط بالسامع من خلال فكرة التوقع.

وعندئذ يحدث التطابق بين أفق التوقع بين الباث الشاعر ومتلقيه، وهو ما سعت إليه البلاغة العربية وكرسه النقاد من خلال مقولات النقد، فكان الإلحاح على وضوح العلاقة بين عناصر الصورة، وسوف يتجلى أكثر في معايير عمود الشعر، وعند تطابق أفق التوقع بين الشاعر وبين المتلقي تمنحه لذة من نوع خاص، لذة مطابقة أفق القصيدة مع أفق الانتظار لديه، لأن كلا الأفقين ينتظمهما منطق واحد، فلا يحدث عندئذ تنافر ولا تصادم.

فعندما تم تدون الأشعار القديمة كانت قد مرت بعدة مراحل من التصفية والتوثيق، بحيث أصبح نموذج الشعر القديم مثالا لفن القول الشعري عند علماء الشعر والنقاد والبلاغيين، وقد راح هؤلاء العلماء يبحث عن سر جمال هذا الشعر، والتنقيب عن قوة تأثيره في المتلقي العربي وقتذاك، وأدت كثرة الاحتكاك بنماذج الشعر القديم إلى تطور الأحكام النقدية تدريجياً، خاصة بعد الاصطدام بتجارب المحدثين في نظم الشعر و اكتشاف ملامح ذوق جديد لم تألفه العرب من قبل في الصياغة والمعاني، ذلك أنه لما تطورت دراسة الشعر وطرحت مسألة المفاضلة بين الشعراء، وبين التجارب الشعرية القديمة والمحدثة، تطورت تلك الأحكام، وأصبح المعتمد في تقريرها خصائص العبارة في النص ذاته، فتولد الاهتمام بالأساليب والصور، وبكل ما له صلة بفنون القول ومسالك التعبير.

عن مقولات عمود الشعر وبنوده وأصحاب هذه القاعدة من المنتصرين للقديم الذين أجمعوا على التمييز بين خطة القدماء في القول وخطة المحدثين، معتبرين نظام القريض عند امرئ القيس وأمثاله من الفحول القاعدة والمعيار الذي يجب أن تقاس عليه سائر الأنظمة القريضية المحدودة بعلامات وحدود صارمة لا يجب تجاوزها جمعت في نظرية عمود الشعر وأي خروج عن العمود وعن معايير هو بمثابة مخالفة للتقاليد المتعارف عليها عند العرب في بنيتهم للقصيدة العربية القديمة، فما المقصود بعمود الشعر؟ وما هي معاييره.

4- شعرية التجاوز؟

تكمن أهمية الخطورة التي استخلصها المرزوقي من الشعر العربي القديم في أنها تحولت إلى قواعد ومعايير، بما تقاس درجة الشعرية، فتكرست مرجعا هاما في اعتبار الأسس والمعايير التي تجعل الشعر مقبولا أو غير مقبول لدى نقاد الشعر ومتذوقيه وازدادت تكريسا لدى الرواة، واللغويين والنحاة.

وكان حكم هؤلاء بجعل تلك القيم التعبيرية الجمالية الواردة في شعر القدماء معياراً ثابتاً، ثم الحكم به على الشعر المحدث، مما خلق صراعا بين القدماء والمحدثين، فكان التعسف في الحكم والقياس، مما دفع بابن قتيبة إلى القول؛ فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله، وهو شاهد عيان على الظلم الذي عايشته الحركة الشعرية الجديدة وكمثال على ذلك قول ابن الأعرابي ساخرا من الشعراء المحدثين إنما أشعار هؤلاء المحدثين مثل أبي نواس وغيره مثل الريحان يشم يوما ويذوى فيرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا، وابن الأعرابي ما هو إلا حلقة في تيار جارف يرفض التجديد، ويرى الحياة نمط مكرور وهناك صور عديدة تشير إلى تعصبه على الشعر الحديث، وبخاصة على شعر أبي تمام الذي لا يقبل شيئا من شعره.

ولم تكن حركة التجديد مجرد تمرد على الأعراف الشعرية القديمة، وإنما تغير نمط الحياة ذاتها فتغير نمط التعبير عن هذه الحياة، لغة ورؤية وصورة وأسلوبا، فالحياة البدوية غير الحياة الحضرية، فكان الانتقال من البداوة إلى التمدن، ذلك أن الحياة بعد هذا بدأت في التحول والتغير والتعقد، فتعقدت المفاهيم وتجلياتها النفسية والفكرية والثقافية، هذا التحول وما صاحبه أو نتج عنه من تحولات نفسية أيقظ الشاعر العربي وحرك وعيه ونبهه إلى وجوب أن يصيب شعره من التحول والتغير ما يجعله قادرا على المواكبة والاستجابة، للظروف المستجدة، التي طرأت على الحياة على الصعيد الاجتماعي والفكري والثقافي، فما كان من الشعر إلا مسايرة هذا التحول.

ظلت الأشكال الشعرية في صراع دائم ومستمر، سابق لاحق بين دعاة المحافظة والتقليد، ودعاة التحديد والمحدثين، وهي سنة خلق الله الخلق عليها، فمن خلال هذا الصراع يشق الجديد طريقه نحو الترسيخ والتكريس وهو الحال الذي عاشته كل حركات التجديد عبر تشكلها، وفي عصورها المختلفة، والحركة الشعرية على وجه التحديد الخصوص.

لقد مرت الحركة الشعرية العربية بمرحلة استقراء الأصول التي استقر عليها الشعر العربي وبقيت تلك الأصول مهيمنة على الذوق العربي، لكن الشعر وليد الحياة، فيأبي السكون والحمود وهو يتغير بتغير نمط الحياة ذاتها، يتشكل بشكلها و يصطبغ بلونها، فلحق الشعر من تحول ما طرأ على الحياة من تحول، فتغيرت الذائقة بتغير مظاهر الحياة، ذلك أن طبيعة الشعر تأبى السكون والجمود، لأن طبيعة الشعر في سعي دائم للبحث عن إمكانية التحول ليجدد من خلالها هويته المتجددة، التي يستمدها من هذا التغير، ذلك أن الشعر لا يمكنه أن يلحقه تعريف أو يحده مفهوم واحد، ولا يقف عند ثابت بل هو في تحول مستمر، في حين يحاول الناقد المتعصب شد الشعر إلى الأصول التي قبله.

في حين يتناسى هؤلاء المتعصبون أن تلك الأشعار ما هي إلا تجارب شعرية مشروطة بالزمان والمكان، خاصة بشاعر أو بجيله فأنصار القديم حاولوا تعميم تلك التجربة المشروطة بلحظة تاريخية محدودة، وفي سياق معين على كل العصور المتلاحقة، وتلك طريقة ترفضها طبيعة الشعر نفسه، حتى وإن رضي شاعر أو شعراء ما، فإنه لا يلبي حاجة كل الشعراء، ولولا هذا التحول الشعري، لمات الشعر وصار تقليدا ومحاكاة، أو ظل الشاعر يردد ما قيل.

قد استعان الشعراء المحدثون على تجاوز المعايير القديمة ما أتاحه لهم عصرهم من حضارة وثقافة وفن، وظلت أشعارهم صورة الحياة مختلفة ومفاهيم جديدة عرفها المجتمع العباسي؛ فقد تفطن النقاد المحدثون إلى أن بين الشعر المحدث، والشعر القديم تفاوتا في المعاني أوجدته الحضارة، وأوجده العلم على الأخص، وما لبث أبو تمام أن جاء فعنى بالأفكار القوية، وغذى شعره بالفلسفة والنظرات في الكون وجرى على غير طريقة العرب و مذهبهم في المعاني، مما دفع بأدونيس إلى تسميته مالارميه العرب.

ونتيجة لاحتكاك العرب بأمم أخرى تختلف عنهم في جوانب عديدة في المأكل والمشرب و اللباس والعادات والتقاليد، ووصل هذا الاحتكاك حد التأثر بالآخر ، والتأثير فيه، فكان انصهار العديد من الثقافات في بوتقة واحدة، مما تولد لقاح بين الثقافات، ونشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة، تحمل صفات من هذه وتلك، وصفات جديدة لم تكن في هذه ولا تلك، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها، فقد انتشرت في هذا العصر أربع ثقافات كان لها الأثر الأكبر في عقول الناس وأعني بها الثقافة الفارسية الثقافة اليونانية الثقافة الهندية والثقافة العربية.
0 تصويتات
بواسطة (1.1مليون نقاط)
كما كان هناك ثقافات دينية أهمها اليهودية والإسلام، والتي كان لها يد في إحداث طفرة جديدة تأثرت بها حياة العرب ومست جوانبها الدينية والاجتماعية والعرقية، وحتى الحياة الأدبية والشعرية التي نالت هي الأخرى نصيبها من هذا التأثير، فظهرت عليها بوادر التجديد والتحديث والخروج من بوتقة القديم المواكبة ومسايرة زمن الحداثة، ذلك أن كل اتجاه وافد على الساحة الشعرية كان يأتي محملا برؤيته المغايرة عما سبقه من نماذج، وبالتالي فإنه يستهدف بالأساس إحداث تحول كيفي في طبيعة الشعر.

وبالحفر والبحث في التاريخ الشعرية العربية نجد أن بشار بن برد من الذين ضاقوا ذرعاً بالقوالب المعيارية، وقد بدا ذلك واضحا من خلال رفضه الصريح في العديد من أشعاره الطريقة القدماء، ورفض أن يكون نسخة لغيره، فكان هذا الخروج تحررا وتمردا في الوقت نفسه على التقاليد المتوارثة، وهو دافع جوهري لتخطي الراهن وتجاوزه، فكان امتزاج الثقافات التي أدخلت الكثير من المتغيرات، وأفرزت العديد من الألفاظ والكلمات والمصطلحات الجديدة.

غير أنه لم يرق المحافظون هذا التغير فأطلق منهم للقديم على الشعراء المولدين بالمحدثين وعلى أشعارهم بالشعر المحدث، تقليلاً وانتقاصاً من قيمتهم ومن شعرهم فكلمة الحدث تقال: للطفل الصغير الذي لم يبلغ بعد، وقد ورد في المعاجم القديمة لفظة حدث على أنها نقيض القديم، والحدوث نقيض القدمة حدث الشيء، يحدث حدوثا وحداثة، وأحدثه هو، فهو محدث، ومحدثات الأمور، ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها وفي الحديث؛ إياكم ومحدثات الأمور، جمع محدثة بالفتح، وهي ما لم يكن معروف في كتاب ولا سنة ولا إجماع، هو المبطل، وهو الضلالة والبدعة، كما ورد من حديث الرسول صل الله عليه وسلم، فهو أول من أطلق اسم الحدث لكل خروج عن الجماعة وعن السنة، والحدث؛ الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد، ولا معروف في السنة، وهذا ما جعل أدونيس يفسر كلمتي الإحداث والمحدث، اللتين وصف بهما الشعر الذي خرج على الأصول القديمة، تجيئان من المعجم الديني، فالمصطلح الذي تم وسم الشعر الجديد به كان يرتبط بدلالة مستهجنة في الدين، لتجد رفضا واستهجانا عند المتلقي.

منه استقى النقاد القدامى هذا اللفظ من المعجم الديني والصقوه بالشعر الجديد وبكل موجة تدعو للحداثة فكانت تسمي جميع الذين لا يفكرون وفقا لثقافة الخلافة بأهل الإحداث، نافية بذلك انتماءهم الإسلامي، وفي هذا ما يوضح كيف أن كلمتي الإحداث أو المحدث اللتين وصف بهما الشعر الذي خرج عن الأصول القديمة تجيئان من المعجم الديني، وفيه ما يوضح كيف أن الحديث الشعري بدا للمؤسسة السائدة كمثل الخروج الفكري خروجا عن ثقافة الخلافة، ونفيا للقديم النموذجي.

ومن هذا المنظور كان الخروج عن عمود الشعر في الإبداع، كالخروج عن العقيدة في الدين قد كان عمود الشعر عندهم جزء يشبه عمود الدين والحياد عنه بدعة من البدع، أو ضلالة يجب أن يتناول بالكراهة التي تبلغ أحيانا حد التحريم، كان ما يسمى باسم عمود الشعر إقرار بأن الأدب العربي ناضج في رأي أصحابه، وهو بهذا النضج ذو أصل وربما يكون من الصعب إفرادها واحدا بعد آخر، ولكن كان من السهل عليهم إقرار مبدأ الأصول، فلا نقاء بغير أصول تتمثل في أذهانهم ولو عجزوا عن إيفائها حقها من التعبير، كان السخط على من يسمونه المحدثين أشبه بالسخط على ذوي البدع الذين لا يستمسكون بالأصول من القرآن والحديث، هؤلاء المحدثون اعتبروا أحيانا ثائرين على نقاء الطبع وجوهر التفكير الموروث، منقطعين عن الإحساس بالماضي العريق.

وبناء على هذا فإن علاقة القدماء المحافظين بالشعراء المحدثين وصلت حد الاحتدام والخصومة، خاصة وأن المحدثين قاموا بحركة انتقالية في الشعرية العربية لم تكن معهودة، فنقلوها من البساطة إلى التعقيد والتكلف، وبات من الصعب إلزام اللاحق بأذواق السابق، ويعد أبو تمام حبيب بن أوس رأس الشعراء المحدثين وشيخهم إذ عنده نضج التجاوز واكتمل، فكان أغوص في معانيه والأكثر حرصا على الزخرف البديعي الذي عنى به عناية كبيرة وأخذت رسومه وأصوله تكثر وتتجدد حتى بلغت غاية بعيدة عند أبي تمام، وأبو تمام أدق صورة للحياة الفنية المعقدة التي تقوم على أصول في التفكير وفي الأسلوب، وقد لا تنسجم من أجل ذلك كثر الملام في شعره، وكثرت العصبية له وعليه، فأما اللغويون فحسبهم أن يتجاهلوه، وأن يطرحوه، ويحملوا لشعره من الوهم والازدراء ما يصرفهم عن تذوقه، بل يحجبهم عن فهمه في بعض الأحيان.

أما الأدباء فحفلوا به ودرسوه على أنه رمز الشعر المحدث، وعلى أنه الصورة الكاملة الناضجة فيه إلى أيامهم، وكان لهم في نقد الشعر أسلاف في عهد بشار وأبي نواس، فاحتذوهم ووقعوا على بعض ما جدد أبو تمام من فنون البديع وما جاء في شعره من غلط في المعاني وإحالة في الاستعارات، وسوء، ورداءة طبع، وإفراط وإسراف، وخروج عن السنن المألوف.

وبالتالي تنسب شعرية التجاوز إليه برغم المحاولات التي سبقته من بشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد وغيرهم، إلا أن اكتمال شعرية التجاوز ونضوجها ترجع لأبي تمام، لأنه كان يعطل فعالية الذاكرة، ليؤسس بدلا منها فعالية المخيلة، الأولى تعتمد على الرصيد التاريخي للغة، والثانية تصنع لها رصيدا عاطفيا مغايرا، كذلك فإن الذاكرة الشخصية هي جزء من الذاكرة الجمعية، لكن المخيلة الشعرية على العكس فردية بطبيعتها، لذلك فإنها تصطدم بذاكرة الجماعة، كلما كانت فعالياتها وبالتالي شعريتها أكبر.

فالتجاوز إذن مفهوم مخالف لمفهوم الثبات والسكون، ولذلك يؤكد الشعراء أن تكسير العلاقات الموضوعية ضرورة لتحقيق وظيفته الشعر، فهو خرق للمعهود، يقول نزار قباني كل ما يدخل في نطاق المألوف والعادة ليس شعرا، ذلك أن الانفعال والدهشة والفضول لدينا لا يثار بالمعتاد الذي يدور في دائرة المتداول المألوف، وبالتالي فإن التجاوز هو الذي يصنع الفاعلية الشعرية والشعر متى ما ركن إلى الثبات تحول عن خاصيته ذلك أن الشعر يتجاوز المعلوم إلى المجهول والواضح إلى المستتر والثابت إلى العرضي، فهو ينفذ إلى تمثيل مالا يستطيع تمثيله وإلى رؤية مالا يرى.

وبالتالي فإنه يمكننا القول أن شعر أبي تمام جاء منتهكا لخصائص النموذج التقليدي المألوف، على قيود العمود المتعارفة والمتبعة منذ القدم كطريقة أجمع القدامي على أن الالتزام بها هو تحقيق للشعرية وتكريس للشعر العربي الأصل، وبهذا فإن التجاوز الذي حققه أبو تمام رسم معالم طريقة جديدة للتعبير تناقض الطريقة الأولى والمعيارية التي كان يرضخ لها الشاعر العربي حقبة من الزمن مكرها عليها أو راغبا فيها طالما أن الذائقة العربية تقبله وتستسيغه ذلك أننا لا تلبث أن نجد فئة أخرى من النقاد تحس أن شعر أبي تمام في كثير من نقاطه يشكل نغمة نشاز لا يستسيغها الذوق الحضاري المترف، فقد وجدوا فيه ألفاظا غريبة لم يألفوها، وألفاظا أخرى صعبة على اللسان ثقيلة على الآذان، ووجدوا في معانيه دقة وغموضا يضطر السامع إلى شيء غير قليل من التفكير، وأنكروا عليه الخروج في غير موضع عن مقتضى الحال ومراعاة المقام، حتى واجه الممدوحين بما يكرهون ووصفهم بما لا يستسيغون.

وقد لقي التجاوز في الشعرية العربية المساحة الشاسعة لممارسته في خضم المثاقفة والاحتكاك بالحضارات الوافدة من الأمم الأخرى لاسيما في العصر العباسي، الذي عرف بتطور العمران ونشوء المدن بعد أن كان العربي لا يعرف إلا الصحاري والقفار، ويسكن القصور بدل الخيام، فلان بذلك طبعه وتهذب لفظه وتأنق حديثه فكان أحرص في تعابيره على انتقاء أجزل الألفاظ وأحسن المعاني حتى غرق في التكلف والتصنع، فذم بذلك شعر المحدثين وحاول العديد من النقاد إقصاءه كليا من دائرة الشعر لأنه غير مطبوع ولا على طريقة الأوائل.

إن المعايير التي نظم الشعراء القدامى على أساسها قصائدهم كانت تجيء على السليقة والسجية، فقد اعتادوا عليها وتداولوها حتى أصبحت حديثهم الجاري المتداول في مخاطبتهم، فهذا يخاطب ذاك ببيت أو بيتين ثم يرد عليه الآخر بنفس المنوال بطريقة ارتجالية سلسة، ثم ما لبثت أن بدأت تتبلور وتتحور حتى أصبحت التزامات واجبة وقوانين صارمة، تم بها مقاضاة الشعر اللاحق المحدث بتهمة التمرد والخروج عن نواميس معيار عمود الشعر المنصوصة، وفي ظل هذا الصدام نشأ صراع الشعرية بشقيها المعياري الداعي للوضوح والائتلاف والتجاوزي الذي أثر الغموض والاختلاف، فتولد عن هذا وجود قطبيين متنافرين كل منهما يرفض ويعاكس الآخر في الاتجاه، ولعل هذا سبب رفض شعر أبي تمام واتهامه بإفساد الشعر فقط لأنه قال ما لم تقله العرب فخرج بذلك وتجاوز المنطق المألوف الاعتيادي في محاولة منه لتغيير القائم وتطويره، فقد كان الوصف قبله تحديدا حسيا للواقع لكنه صار معه خلقا جديدا للعالم، وبهذا كله يمهد للشعر الرمزي والشعر الصافي إنه حد فاصل؛ كان الشعر قبله قدرة على التعود والألفة فصار بعده قدرة على التغرب والمفاجأة.

وتأسيسا على ما سبق نستشف أن ثمة نظامين معرفيين مختلفين متغايرين، لا يمكن قراءة أحدهما بالآخر، من حيث إن النظام الأول أفرز شعرية المعيار، والثاني أفرز شعرية التجاوز، وإن كانت كل شعرية منهما تنتمي إلى حقل الشعرية العربية، إذ ليس هناك شعرية واحدة، وإنما هناك شعريات داخل مفهوم الشعرية العربية، لذا كان لزاما علينا التنقيب والبحث في طبقات الوعي عن شعريات أخرى لم تنل حظها من النقد منتهجين تقنية الحفر في الترسبات الشعرية القديمة.

وكانت التجربة الشعرية الصوفية من بين الشعريات التي ظلت في الهامش، وقد غطت عليها شعرية المعيار، ولم تنل حقها من النقد والتنظير، بل حورب الكثير من أعلامها ومبدعيها، وتعرضت لمحاولات وأدها وتصفيتها من الوجود التراثي الشعري، لا لشيء سوى أنها أرادت خلق فضاء خاص بها متجاوزة فيها كل تلك المعايير التي حادت عن أفق الابداع، فراحت تصنع لنفسها قوانين أخرى، فجمعت بين النقائض ووحدت بين الظاهر والباطن الموضوع والذات الإنسان والله، نوعا فريدا من العودة إلى الطبيعة، كانت تجاوزا للواحد المفردن وتوكيدا للواحد الكثير، كانت دخولا في الطبيعة وخروجا عن القاعدة في الحرية، إن التفكير بالوحدة المفردنة بالواحد الأحد، تكرار مستمر لأن الواحد لا يحيل إلا إلى الواحد ومثل هذا التفكير يؤدي إلى نفي الفكر، وقد أضافت التجربة الصوفية إلى الوحدة مفهوم اللانهاية أي الاحتمال والصيرورة، وهكذا صار الوجود حركيا يتحول باستمرار.

وهذا ما تجلى في أشعار الصوفية من انفتاح الرؤيا، وقانون التطابق، والجنوح للمنافرة والانتقال من الموضوعي والعقلي إلى الذاتي والقلبي، وهو ما اشتهرت به الصوفية من حالات الغياب العقلي والجسدي، كذلك الجمع بين الأضداد وبين مالا يصح جمعه في الفكر والمنطق الإنساني، إن خاصية التجربة الصوفية هي الربط المستمر بين الأطراف المتعارضة، وتلك هي جوهريا خاصية الإبداع، إضافة لمفهوم اللانهاية ولا محدود لدوام الحركة والصيرورة المستمرة وتلك هي طبيعة شعر في أصله فلا يجوز ضبطه لا بتعريف ولا بتقنين ليبقى دائما قابلا للإبداع وفرصة للذات المبدعة المبتكرة.

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى موقع إمبراطور العلم، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...